فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مِهَاداً}:
دلهم على قدرته على البعث؛ أي قُدْرتنا على إيجاد هذه الأمور أعظم من قدرتنا على الإعادة.
والمِهاد: الوِطاء والفراش.
وقد قال تعالى: {الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً} [البقرة: 22] وقرئ: {مَهْداً}.
ومعناه أنها لهم كالمهد للصبيّ وهو ما يمهد له فينوّم عليه {والجبال أَوْتَاداً} أي لتسكن ولا تتكَفْأ ولا تميل بأهلها.
{وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً} أي أصنافاً: ذكراً وأنثى.
وقيل: ألواناً.
وقيل: يدخل في هذا كل زوج من قبيح وحسن، وطويل وقصير؛ لتختلف الأحوال فيقع الاعتبار، فيشكر الفاضل ويصبر المفضول.
{وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ} {جعلنا} معناه صَيَّرنا؛ ولذلك تعدّت إلى مفعولين.
{سُبَاتاً} المفعول الثاني، أي راحة لأبدانكم، ومنه يوم السَّبْت أي يوم الراحة؛ أي قيل لبني إسرائيل: استريحوا في هذا اليوم، فلا تعملوا فيه شيئاً.
وأنكر ابن الأنباري هذا وقال: لا يقال للراحة سُبَات.
وقيل: أصله التمدّد؛ يقال: سبتت المرأة شعرها: إذا حلته وأرسلته، فالسُبَات كالمد، ورجل مسبوت الخلق: أي ممدود.
وإذا أراد الرجل أن يستريح تمدّد، فسميت الراحة سبتا.
وقيل: أصله القُطْع؛ يقال: سَبَتَ شعره سَبْتا: حَلَقه؛ وكأنه إذا نام انقطع عن الناس وعن الاشتغال، فالسُّبات يشبه الموت، إلا أنه لم تفارقه الروح.
ويقال: سَير سَبْت: أي سهل لين؛ قال الشاعر:
وَمطْويةِ الأقرأبِ أمّا نهارُها ** فَسَبْتٌ وأمّا ليلُها فذَمِيلُ

قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا الليل لِبَاساً} أي تلبَسكم ظلمته وتغشاكم؛ قاله الطبري.
وقال ابن جُبير والسُّدي: أي سَكنا لكم.
{وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً} فيه إضمار، أي وقْتَ معاشٍ، أي مُتَصَرَّفاً لِطلب المعاش وهو كل ما يُعاش به من المطعم والمشرب وغير ذلك ف {معاشا} على هذا اسم زمان، ليكون الثاني هو الأول.
ويجوز أن يكون مصدراً بمعنى العيش على تقدير حذف المضاف.
{وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً} أي سبع سموات محكمات؛ أي محكمة الخلق وثيقة البنيان.
{وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً} أي وقَّاداً وهي الشمس.
وجعل هنا بمعنى خلق؛ لأنها تعدّت لمفعول واحد والوهاج الذي له وَهَج؛ يقال؛ وهَجَ يهِج وَهْجا ووَهَجاً ووَهَجَاناً.
ويقال للجوهر إذا تلالأ توهّج.
وقال ابن عباس: وهَّاجاً منيراً متلألئاً.
{وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات مَاءً ثَجَّاجاً} قال مجاهد وقتادة: والمعصِرات الرياح.
وقاله ابن عباس.
كأنها تَعْصِر السحاب.
وعن ابن عباس أيضاً: أنها السحاب.
وقال سفيان والربيع وأبو العالية والضحاك: أي السحائب التي تنعصِر بالماء ولما تُمْطر بعد، كالمرأة المُعْصِر التي قددنا حيضُها ولم تحض، قال أبو النجم:
تمشِي الهُوَينَى مائلاً خِمارُها ** قد أَعْصَرتْ أوقد دنا إعصارها

(وقال آخر):
فكان مجِني دون من كنت أتقِي ** ثَلاثُ شُخُوصٍ كاعِبان ومُعْصِرُ

وقال آخر:
وذِي أشُرٍ كالأُقْحوانِ يزِينهُ ** ذِهابُ الصَّبا والمُعْصِراتُ الرَّوائِحُ

فالرياح تسمى مُعْصرات؛ يقال: أَعْصَرَت الريح تُعْصِر إعصاراً: إذا أثارت العجاج، وهي الإِعصار، والسحب أيضاً تسمى المُعْصِرات لأنها تمطر.
وقال قتادة أيضاً: المُعْصِرات السماء، النَّحَّاس: هذه الأقوال صحاح؛ يقال للرياح التي تأتي بالمطر مُعْصرات، والرياح تلقح السحاب، فيكون المطر، والمطر ينزل من الريح على هذا.
ويجوز أن تكون الأقوال واحدة، ويكون المعنى وأنزلنا من ذوات الرياح المُعصِرات {مَاءً ثَجَّاجاً} وأصح الأقوال أن المعصرات: السحاب.
كذا المعروف أن الغيث منها، ولو كان {بالمعُصرات} لكان الريح أولى.
وفي الصحاح: والمعصرات السحائب تُعْتَصر بالمطر.
وأُعِصر القوم أي أمطِروا؛ ومنه قرأ بعضهم {وفِيه يُعْصِرون} والمعصِر: الجارية أوّل ما أدركت وحاضت؛ يقال: قد أعصرت كأنها دخلت عصر شبابها أو بلغته؛ قال الراجز:
جارِيةٌ بَسفَوانَ دارها ** تمشِي الهُوَيْنَى ساقِطاً خمارُها

قد أَعصَرَتْ أو قد دنا إعصارُها

والجمع: مَعاصِر، ويقال: هي التي قاربت الحيض؛ لأن الإعصار في الجارية كالمراهقة في الغلام.
سمعته من أبي الغوت الأعرابيّ.
قال غيره: والمُعصر السحابة التي حان لها أن تمطر؛ يقال أجن الزرع فهو مُجنّ: أي صار إلى أَن يُجِنّ، وكذلك السحاب إذا صار إلى أن يمطر فقد أعصر.
وقال المبرَّد: يقال سحاب معصر أي ممسك للماء، ويُعْتَصر منه شيء بعد شيء، ومنه العَصَر بالتحريك للملجأ الذي يلجأ إليه، والعُصْرة بالضم أيضاً الملجأ.
وقد مضى هذا المعنى في سورة (يوسف) والحمد لله.
وقال أبو زبيد:
صادِياً يستغِيثُ غير مُغاثٍ ** ولقدْ كان عُصْرة المنْجودِ

ومنه المُعصِر للجارية التي قد قربت من البلوغ يقال لها مُعصِر؛ لأنها تُحْبَس في البيت، فيكون البيت لها عَصَرا.
وفي قراءة ابن عباس وعِكرمة {وأَنزلنا بِالمعصِراتِ}.
والذي في المصاحف {مِن المعصِراتِ} قال أبيّ بن كعب والحسن وابن جبير وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان: {مِن المعصِراتِ} أي من السموات.
{ماء ثَجاجا} صباباً متتابعاً؛ عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما.
يقال: ثَجَجْت دمَه فأنا أَثُجه ثجا، وقد ثج الدم يَثُج ثجوجاً، وكذلك الماء، فهو لازم ومتعدّ.
والثجاج في الآية المنصب.
وقال الزجاج: أي الصَّبَّاب، وهو متعدّ كأنه يثج: نفسه أي يَصُبّ، وقال عَبِيد بن الأبرص:
فثَجَّ أعلاه ثم ارتج أَسفلُه ** وضاقَ ذَرْعا بِحَملِ الماءِ مُنْصاحِ

وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه سئل عن الحج المبرور فقال: العَجّ والثَّجّ» فالعج: رفع الصوت بالتلبية، والثج: إراقة الدماء وذبح الهدايا.
وقال ابن زيد: ثجاجاً كثيراً.
والمعنى واحد.
قوله تعالى: {لِّنُخْرِجَ بِهِ} أي بذلك الماء {حبًّا} كالحنطة والشعير وغير ذلك {وَنَبَاتاً} من الأبّ، وهو ما تأكله الدواب من الحشيش.
{وَجَنَّاتٍ} أي بساتين {أَلْفَافاً} أي ملتفة بعضها ببعض لتشعّب أغصانها، ولا واحد له كالأوزاع والأخياف.
وقيل: واحد الألفاف لِفٌّ بالكسر، ولُفّ بالضم.
ذكره الكسائي؛ قال:
جنة لُفٌّ وعيشٌ مُغْدِق ** ونَدامَى كلُّهمْ بِيضٌ زُهُرْ

وعنه أيضاً وأبي عبيدة: لفيف كشريف وأشراف.
وقيل: هو جمع الجمع، وحكاه الكسائي.
يقال: جنة لَفَّاء ونبت لِفٌّ والجمع لُفٌّ بضم اللام مثل حمر، ثم يجمع اللّف ألفافاً.
الزمخشري: ولو قيل جمع مُلْتفة بتقدير حذف الزوائد لكان وجيهاً.
ويقال: شجرة لَفّاء وشجر لُفّ وامرأة لفاء: أي غليظة الساق مجتمعة اللحم.
وقيل: التقدير: ونخرج به جنات ألفافاً، فحذف لدلالة الكلام عليه.
ثم هذا الالتفاف والانضمام معناه أن الأشجار في البساتين تكون متقاربة، فالأغصان من كل شجرة متقاربة لقوتها. اهـ.

.قال الألوسي:

{أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مهادا} إلخ استئناف مسوق لتحقيق النبأ المتساءل عنه بتعداد بعض الشواهد الناطقة بحقيته أثر ما نبه عليها بما ذكر من الردع وجوز أن يكون بتقدير قل كأنه قيل قل كيف تنكرون أو تشكون في البعث وقد عاينتم ما يدل عليه من القدرة التامة والعلم المحيط والحكمة الباهرة المقتضية أن لا يكون ما خلق عبثاً وفيه أن من كان عظيم الشأن باهر القدرة ينبغي أن يخاف ويخشى ويتأثر من زجره ووعيده والهمزة للتقرير بما بعد النفي والمهاد الفراش الموطأ وفي (القاموس) المهد الموضع الذي يهيأ للصبي كالمهاد وعليه فالمهد والمهاد بمعني ويؤيده قراءة مجاهد وعيسى الهمداني {مهداً} وفي الآية حينئذ تشبيه بليغ وكل منهما مصدر سمي به ما يمهد وجوز أن يكون باقيا علي المصدرية والوصف بالمصدر كثير أو التقدير ذات مهاد أو مهد وقيل كما يمكن أن يكون المهاد مصدراً سمي به المفعول يحتمل أن يكون فعالاً أي اسماً على زنته يؤخذ للمفعول كالإله والإمام وجعل الأرض معاداً إما في أصل الخلقة أو بعدها وأياً ما كان فلا دلالة في الآية على ما ينافي كريتها كما هو المشهور من عدة مذاهب ومذهب أهل الهيئة المحدثين أنها مسطحة عند القطبين لأنها كانت لينة جدًّا في مبدأ الأمر لظهور غاية الحرارة الكامنة فيها اليوم فيها إذ ذاك وقد تحركت على محورها فاقتضى مجموع ذلك صيرورتها مسطحة عندهما عندهم وأهل الشرع لا يقولون بذلك ولا يتم للقائل به دليل حتى يرث الله تعالى الأرض ومن عليها.
{والجبال أَوْتَاداً} أي كالأوتاد ففيه تشبيه بليغ أيضاً والمراد أرسينا الأرض بالجبال كما يرسي البيت بالأوتاد قال الأفوه:
والبيت لا يبتنى الإله عمد ** ولا عماد إذا لم ترس أوتاد

وفي الحديث: «خلق الله تعالى الأرض فجعلت تميد فوضع عليها الجبال فاستقرت فقالت الملائكة ربنا هل خلقت خلقاً أشد من الجبال قال نعم الحديد فقالت ربنا هل خلقت خلقاً أشد من الحديد قال نعم النار فقالوا ربنا هل خلقت خلقاً أشد من النار قال نعم الماء فقالوا ربنا هل خلقت خلقاً أشد من الماء قال نعم الهواء فقالوا ربنا هل خلقت خلقاً أشد من الهواء قال نعم ابن آدم يتصدق بيمينه فيخفى ذلك عن شماله» وظاهره كغيره أن خلق الجبال بعد خلق الأرض وإليه ذهب الفلاسفة المتقدمون والمحدثون وهي متفاوتة عندهم في الحدوث تقدماً وتأخراً.
وجاء في حديث رواه الحاكم وصححه عن ابن عباس أن أول جبل أبو قبيس وفي كيفية حدوثها منذ حدثت خلاف عندهم وقد يتلاشى ما حدث منها بطول الزمان:
إن الجديدين إذا ما استوليا ** على جديد أسماءه للبلى

وربما يشاهد حدوق بعض تلاع حجريلا من انجماد بعض المياه واستشكل احتياجها للإرساء بالجبال مع طلبها للمركز بثقلها المطلق وأجيب بأنه قد علم الله تعالى أنها ستكن ويكون عليها من الأثقال ما يكون ومن المعلوم أنها حينئذ يكون لها مركزان مركز جحم ومركز ثقل والذي ينطبق منهما على مركز العالم إنما هو مركز الثقل فيلزم من تحرك ثقيل إلى جهة المشرق أو المغرب مثلاً عليها تحركها لاختلاف مركز ثقلها ولزوم انطباقه على مركز العالم فيحصل الميد ولم تكن إذ ذاك بحيث لا يكون لما يكون عليها من أثقال سكنتها قدر يحس به فوضعت عليها الجبال وانطبق مركز ثقلها على مركز العالم وصار مجموع الأرض والجبال بحيث لا يظهر للمتحرك بعد قدر يحس به وقيل إنها كانت لخفتها بحيث يحركها أمواج البحر المحيط بها فيصل الميد فثقلت بالجبال مع ما في الجبال من المنافع الجمة التي لم تخلق الأرض لأجلها بحيث لا تحركها الأمواج وتمام الكلام في ذلك حسبما كنا واقفين عليه قد مر فتذكر وحكى عن بعض أن جعلها كذلك بمعنى جعلها سبباً كذلك بمعنى جعلها سبباً لأنتظام أهل الأرض بما أودع فيها من المنافع ولولاها لمادت بهم أي لما تهيأت للانتفاع بها ولاختل أمر سكناهم إياها وهو تأويل مناف للظواهر لا يحتاج إليه ما لم يقم الدليل القطعي على محالية إرادة الظاهر نعم قيل إن هذا أقرب للتقرير فإن جعلها أوتاداً بهذا المعنى أظهر من جعلها كذلك بذلك المعنى وأقرب إلى العلم به وربما يقال إنه أوفق لترك إعادة العامل ومن لا يراه يجعل النكتة فيه قوة ما بين الأرض والجبال من الاشتراك والارتباط فافهم.
{وخلقناكم} عطف على المضارع المنفي بلم داخل في حكمه فإنه قي قوة أما جعلنا إلخ أو على ما يقتضيه الانكار التقريري فإنه في قوة أن يقال قد جعلنا إلخ والالتفات إلى الخطاب هنا بناء على القراءة المشهورة في {سيعلمون} للمبالغة في الإلزام والتبكيت {أزواجا} قال الزجاج وغيره مزدوجين ذكراً وأنثى ليتسنى التناسل وينتظم أمر المعاش وقيل أصنافاً في اللون والصورة واللسان وقيل يجوز أن يكون المراد من الخلق أزواجاً الخلق من منيين مني الرجل ومني المرأة والمعنى خلقنا كل واحد منكم {أزواجا} باعتبار مادته التي هي عبارة عن منيين فيكون هلقناكم {أزواجا} من قبيل مقابلة الجمع بالجمع وتوزيع الأفراد على الأفراد وهو خلاف الظاهر جدًّا ولا داعي إليه.
{وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً} أي كالسبات ففي الكلام تشبيه بليغ كما تقدم والمراد بالسبات الموت وقد ورد في اللغة بهذا المعنى ووجه تشبيه النوم ظاهر وعلى ذلك قوله تعالى: {وَهُوَ الذي يتوفاكم باليل} [الأنعام: 60] وهو على بناء الأدواء مشتق من السبت بمعنى القطع لما فيه من قطع العمل والحركة ويقال سبت شعره إذا حلقه وأنفه إذا اصطلمه وزعم ابن الأنباري كما في الدور أنه لم يسمع السبت بمعنى القطع وكأنه كان أصم وقيل أصل السبت التمدد كالبسط يقال سبت الشعر إذا حل عقاصه وعليه تفسير السبات بالنوم الطويل الممتعد والامتنان به لما فيه من عدم الانزعاج وجوز بعضهم حمله على النوم الخفيف بناء على ما في (القاموس) من إطلاقه عليه على أن المعنى {جَعَلْنَا نَوْمَكُمْ} نوماً خفيفاً غير ممتد فيختل به أمر معاشكم ومعادكم وفي (البحر) {سباتاً} أي سكوناً ورواحة يقال سبت الرجل إذا استراح وزعم ابن الانباري أيضاً عدم سماع سبت بهذا المعنى ورد عليه المرتضى بأنه أريد الراحة اللازمة للنوم وقطع الإحصاص فإن في ذلك راحة القوى الحيوانية مما عراها في اليقظة من الكلام ومنه سمي اليوم المعروف سبتاً لفراغ وراحة لهم فيه وقيل سمي بذلك لأن الله تعالى ابتدأ بخلق السموات والأرض يوم الأحد فخلقها في ستة أيام كما ذكر عز وجل فقطع عمله سبحانه يوم السبت فسمي بذلك واختار المحققون كون السبات هنا بمعنى الموت لأنه أنسب بالمقام كما لا يخفى.
{وَجَعَلْنَا الليل} الذي يقع فيه النوم غالباً {لِبَاساً} يستركم بظلامه كما يستركم اللباس ولعل المراد بهذا اللباس المشبه به ما يستتر به عند النوم من اللحاف ونحوه فإن شبه الليل به أكمل واعتباره في تحقيق المقصد ادخل واختار غير واحد إرادة الأعم وإن المعنى جعلناه ساتراً لكم عن العيون إذا أردتم هرباً من عدو أو بياتاً له أو خفاه ما لا تحبون الإطلاع عليه من كثير من الأمور وقد عد المتنبي من نعم الليل البيات على الأعداء والفوز بزيارة المحبوب واللقاء مكذباً ما اشتهر من مذهب المانوية من أن الخير منسوب إلى النور والشر إلى الظلمة بالمعنى المعروف فقال:
وكم لظلام الليل عندي من يد ** تخبر أن المانوية تكذب

وقاك ردى الأعداء تسري إليهم ** وزارك فيه ذو الدلال المحجب

وقال بعضهم يمكن أن يحمل كون الليل كاللباس على كونه كاللباس لليوم في سهولة أخراجه ومنه ولا يخفى بعده ومما يقضي منه العجب استدلال بعضهم بهذه الآية على أن من صلى عرياناً في ليل أو ظلمة فصلاته صحيحة ولعمري لقد أتى بعري عن لباس التحقيق على من أرشق عليه ضياء الحق الحقيق.
{وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً} مصدر ميمي بمعنى العيش وهو الحياة المختصة بالحيوان على ما قال الراغب دون العامة لحياة الملك مثلاً ووقع هنا ظرفاً كما قيل في نحو أتيتك خفوق النجم وطلوع الفجر وجوز أن يكون اسم زمان وتعقب بأنه لم يثبت مجيئه كذلك في اللغة والمعنى وجعلنا النها روقت معاش أي حياة تبعثون فيه من نومكم الذي هو أخو الموت وكأنه لما جعل سبحانه النوم موتاً مجازاً جعل جل شأنه اليقظة معاشاً كذلك لكن أوثر النهار ليناسب المتوسط وقيل المعنى وجعلنا النهار وقت معاض تتقلبون فيه لتحصيل ما تعيشون به وهو أنسب بجعل السبات فيما تقدم بمعنى القطع عن الحركة على ما قيل ولا يخفى حسن ذكر جعل الليل لباساً بعد جعل النوم سباتاً وهو مشير إلى حكمة جعل النوم ليلاً أيضاً لأن النائم معطل الحواس فكان محتاجاً لساتر عما يضره فهو أحوج ما يكون للدثار وضرب خيام الاستتار وفي (الكشف) أن المطابقة بين قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا الليل لِبَاساً} [النبأ: 10] وقوله سبحانه: {وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً} مصرحة وفيه مطابقة معنوية أيضاً مع قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا} من حيث إن النهار وقت اليقظة والمعاش في مقابلة السبات لأنه حركة الحي ومنه علم أن قوله تعالى: {سُبَاتاً وَجَعَلْنَا الليل لِبَاساً} غير مستطرد ووجه النظم أنه لما ذكر خلقهم أزواجاً استوفى أحوالهم مقترنين ومفترقين اه وفيه تعريض بالطيبي حيث زعم الاستطراد إذا أريد بالمعاش اليقظة وبالسبات الموت.
{وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً} أي سبع سموات قوية الخلق محكمة لا يسقط منها ما يمنعكم المعاش والتعبير عن خلقها بالبناء للإشارة إلى تشبيهاً بالقباب المبنية على سكنتها وقيل للإشارة إلى أن خلقها على سبيل التدريج وليس بذاك وفيه أن السماء خيمية لا سطح مستو وفي الآثار ما يشهد له ولا يأباه جعلها سقفاً في آية أخرى وقد صح في العرش ما يشهد بخيمية أيضاً والفلاسفة السالفون على استدارتها ويطلقون عليها اسم الفلك واستدلوا على ذلك حسب أصولهم بعد الاستدلال على استدارة السطح الظاهر من الأرض ولا يكاد يتم لهم دليل عليه قالوا الذي يدل على استدارة السماء هو أنه متى قصدنا عدة مساكن على خط واحد من عرض الأرض وحصلنا الكواكب المارة على سمت الرأس في كل واحدة منها ثم اعتبرنا أبعاد ممرات تلك الكواكب في دائرة نصف النهار بعضها من بعض وجدناها على نسب المسافات الأرضية بين تلك المساكن.
كذلك وجدنا ارتفاع القطب فيها متفاضلاً بمثل تلك النسب فتحدب السماء في العرض مشابه لتحدب الأرض فيه لكن هذا التشابه موجود في كل خط من خطوط العرض وكذا في كل خط من خطوط الطول فسطح السماء بأسره مواز لسطح الظاهر من الأرض بأسره وهذا السطح مستدير حساً فكذا سطح السماء الموازي له وأيضاً أصحاب الأرصاد دونوا مقادير أجرام الكواكب وإبعاد ما بينها في الأماكن المختلفة في وقت واحد كما في إنصاف نهار تلك الأماكن مثلاً متساوية وهذا يدل على تساوي إبعاد مراكز الكواكب عن منظر الأبصار المستلزم لتساوي أبعادها عن مركز العالم لاستدارة الأرض المستلزم لكون السماء كرية وزعموا أن هذين أقرب ما يتمسك بهما في الاستدارة من حيث النظر التعليمي وفي كل مناقشة أما الثاني فالمناقشة فيه أنه إنما يصح لو كان الفلك عندهم ساكناً والكوكب متحركاً إذ لو كان السماء متحركاً جاز أن يكون مربعاً ويكون مساواة أبعاد مراكز الكواكب عن مناظر الأبصار وتساوي مقادير الأجرام للكواكب حاصلاً وأما الأول: فالمناقشة فيه أنه إنما يصح لو كان الاعتدال المذكور موجوداً في كل خط من خطوط الطول والعرض وهو غير معلوم وأما غير ماذكر من أدلتهم فمذكور مع ما فيه في نهاية الإدراك في دراية الأفلاك فارجع إليه إن أردته بقي هاهنا بحث وهو أن العطف إذا كان على الفعل المنفي بلم داخلاً في حكمه يلزم أن يكون بناه سبع سموات شداد فوق معلوماً للمخاطبين وهم مشركو مكة المنكرون للبعث كما سمعت ليتأتى تقريرهم به كسائر الأمور السابقة واللاحقة فيقال إن كون السموات سبعاً مما لا يدرك بالكمشاهدة وهم المكذبون بالنبي صلى الله عليه وسلم فلا يصدقونه بمثل ذلك مما معرفته بحسب الظاهر إنما هي من طريق الوحي وأجيب بأنهم علموا ذلك بواسطة مشاهدتهم اختلاف حركات السيارات السبع مع اختلاف أبعادها بعضها عن بعض وذلك أنهم علموا السيارات واختلاف حركاتها وعلموا أن بعضها فوق بعض لخسف بعضها بعضاً فقالوا في باديء النظر بسبع سموات كل سماء لكوكب من هاتك الكواكب ولا يلزمنا البحث عما قالوا في الثواب وفي المحرك لها وللسبع بالحركة اليومية إذ هو وراء ما نحن فيه واعترض بأن هذا لا يتم إلا إذا كانوا قائلين بأن السماء عبارة عن الفلك وأنها تتحرك على الاستدارة ويكون أوجها حضيضاً وحضيضها أوجاً ولعلهم لا يقولون بذلك وإنما يقولون كبعض السلف من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن السماء ساكنة والكوكب متحرك والفلك إنما هو مجراه وحينئذ فيجوز أن تكون السبع على اختلاف حركاتها وأبعادها في ثخن سماء واحدة تجري في أفلاك ومجار لها على الوجه المحسوس ويجوز أيضاً غير ذلك كمالا يخفى وأيضاً لو كان علمهم بذلك مما ذكر لقالوا بالتداوير ونحوها أيضاً كما قال بذلك أهل الهيئة السالفون لأن اختلاف الحركات يقتضيه بزعمهم لاسيما في المتحيرة ولو كان العرب قائلين به لوقع في أشعارهم بل لا يبعد أنه لو ذكر لهم ذاكر التداوير والمتممات الحاوية والمحوية مثلاً لنسبوه إلى ما يكره وقيل إنهم ورثوا علم ذلك عن أسلافهم السامعين له ممن يعتقدون صدقه كإسماعيل عليه السلام ويجوز أن يكونوا سمعوه من أهل الكتاب ولما لم يروه منافياً لما هم عليه اعتقدوه ويكفي في صحة التقرير هذا المقدار من العلم وتعقب بأنه على هذا لا تنتظم المتعاطفات المقر بها في سل واحد من العلم والأمر فيه سهل وقيل نزلوا منزلة العالمين به لظهور دليله وهو اخبار من دلت المعجزة على صدقه به وفيه بعد وقيل الخطاب للناس مؤمنيهم ومشركيهم وغلب المؤمنون على غيرهم في التقرير المقتضي لسابقيه العلم وهو كما ترى واختار بعض أن العطف على ما يقتضيه الإنكار التقريري فيكون الكلام في قوة قد جعلنا الأرض إلى آخره وبنينا فوقكم سبعاً شداداً وهو حينئذ ابتداه اخبار منه عز وجل بالبناء المذكور فلا يقتضي سابقية علم وتعقب بأن العطف على الفعل المنفي بلم أوفق بالاستدلال بالمذكورات على صحة البعث كما لا يخفى فتأمل وتقديم الظرف على المفعول للتشويق إليه مع مراعاة الفواصل.
{وَجَعَلْنَا} أي أنشأنا وأبدعنا {سِرَاجاً وَهَّاجاً} مشرقاً متلألئاً من وهجت النار إذا أضاءت أو بالغاً في الحرارة من الوهج والمراد به الشمس والتعبير عنها بالسراج من روادف التعبير عن خلق السموات بالبناء ونصب {سراجاً} على المفعولية و{وهاجاً} على الوصفية له وجوز بعضهم أن يكونا مفعولين للجعل على أنه هنا مما يتعدى إليهما وتعقب بأنه مخالف للظاهر للتنكير فيهما وأن قيل السراج الشمس وهي لأنحصارها في فرد كالمعرفة واختلف في موضع الجعل والمشهور أنه في السماء الرابعة ولم نر فيه أثراً سوى ما في (البحر) من عبد الله بن عمرو بن العاص قال الشمس في السماء الرابعة إلينا ظهرها ولهبها يضطرم علوًّا والمذكور في كتب القوم أنهم جعلوا سبعة أفلاك للسيارات السبع على ترتيب خسف بعضها بعضاً أقصاها لزحل والذي تحته للمشتري ثم للمريخ والأدنى للقمر والذي فوقه لعطارد ثم للزهرة إذ وجدوا القمر يكسف الست من السيارات وكثيراً من الثوابت المحاذية لطريقته في ممر البروج وعلى هذا الترتيب وجدوا الأدنى يكسف الأعلى والثوابت تنكسف بالكل ويعلم الكاسف من المنكسف باختلاف اللون فأيهما ظهر لونه عند الكسف فهو كاسف وأيهما خفي لونه فهو منكسف وبقي الشك في أمر الشمس إذ لم يعرف انكساف شيء من الكواكب بها لاضمحلال نورها في ضيائها عند القرب منها ولا انكسافها بشيء من الكواكب غير القمر فذهب بعض القدماء إلى أن فلكي الزهرة وعطارد فوق فلكها مستدلين عليه بأنهما لا يكسفانها كما يكسفها القمر وهو باطل إذ من شرط كسف السافل العالي أن يكونا معاً والبصر على خط واحد مستقيم والألم يكسفه كما في أكثر اجتماعات القمر وإذا كان كذلك فمن المحتمل أن يكون مدارهما بين الشمس والإبصار ولأن جرميهما عندهم صغيران غير مظلمين كجرم القمر حتى يكسفاها ولأنه إذا كسف القمر من جرم الشمس ما مساحته مساوية لجرم أحد هذين الكوكبين أو أكثر لا يظهر المنكسف للإبصار على ما نص عليه بطليموس في الاقتصاص وذهب بعضهم من تقادم عهدهم إلى أنهما تحت فلك الشمس وإن لم تكسف بهما استحساناً لما في ذلك من حسن الترتيب وجودة النظام على ما بين في موضعه ومال إليه بطليموس قال في المجسطي ونحن نرى ترتيب من تقادم عهده أقرب إلى الإقناع لأنه أشبه بالأمر الطبيعي لتوسط الشمس بين ما يبعد عنها كل البعد وبين ما لا يبعد عنها إلا يسيراً ثم قوي عزمه لما رأى بعد الشمس المعلوم من الأرض مناسباً لهذا الموضع لأنه لما وجد بين أبعد بعد القمر وأقرب قرب الشمس بعداً يمكن أن يوجد فيه فلكا الزهرة وعطارد وأبعادهما المختلفة قال في الاقتصاص مثل هذا الفضاء لا يحسن أن يترك عطلاً ولا يحسن أن يكون فيه المريخ فضلاً عن غيره فليكونا فيه وتأكد هذا عند بعض المتأخرين بأنه شوهدت الزهرة على قرص الشمس في وقتين بينهما نيف وعشرون سنة وكانت أول الحالين في ذروة التدوير وفي الثاني في أسفله ويبطل به ما ظن من كون عطارد والزهرة مع الشمس في كرة ومركز تدويرهما لاستحالة أن ترى الزهرة في الذروة على هذا الوجه وهذه أمور ضعيفة بعضها خطابي إقناعي وبعضها مبين ما فيه في محله وقد زعم بعض الناس أنه كما وجد في وجه القمر محو فكذا في وجه الشمس فوق مركزها بقليل نقطة سوداء وأهل الأرصاد اليوم على ما سمعنا من غير واحد جازمون بأن في قرصها سواداً وعلامات مختلفة ولهم في ذلك كلام مذكور في كتبهم وعليه ففي تشبيههما بالسراج من الحسن ما فيه وعن بعضهم أن النور كخيمة عليها ورأيت في بعض كتبهم أنه ينشق من حوالي جرمها والكلام في مقدار جرمها وبعدها عن الأرض عند كل من المتقدمين والمعاصرين من الفلاسفة مما لا حاجة لنا به في هذا المقام مع ما في ذلك من الاختلاف المفضي بيانه بما له وعليه إلى مزيد تطويل.
{وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات} هي السحائب على ما روي عن ابن عباس وأبي العالية والربيع والضحاك ولما كانت معصرة اسم مفعول لا معصرة اسم فاعل قيل إنها جمع معصرة من أعصر على أن الهمزة فيه للحينونة أي حانت وشارفت أن تعصرها الرياح فتمطر والأفعال يكون بهذا المعنى كثيراً كأجزر إذا حان وقت جزاره وأحصد إذا شارف وقت حصاده ومنه أعصرت الجارية إذا دنت أن تحيض قال أبو النجم العجلي:
تمشي الهوينا مائلاً خمارها ** قد عصرت أو قد دنا إعصارها

وجوز على تقدير كون الهمزة للحينونة أن يكون المعنى حان لها أن تعصر أي تغيت ومنه العاصر المغيث ولذا قال ابن كيسان سميت السحائب بذلك لأنها تغيث فهي من العصرة كأنه في الأصل بمعنى حان أن تعصر بتخييل أن الدم يحصل منها بالعصر وقيل إنها جمع لذلك أيضاً إلا أن الهمزة لصيرورة الفاعل ذا المأخذ كأيسر وأعسر وألحم أي صار ذا يسر وصار ذا عسر وصار ذا لحم وعن ابن عباس أيضاً ومجاهد وقتادة أنها الرياح لأنها تعصر السحاب فيمطر وفسرها بعضهم بالرياح ذوات الأعاصير على أن صيغة اسم الفاعل للنسبة إلى الإعصار بالكسر وهي ريح تثير سحاباً ذا رعد وبرق ويعتبر التجريد عليه على ما قيل والمازني اعتبر النسبة أيضاً إلا أنه قال: {المعصرات} السحائب ذوات الأعاصير فإنها لابد أن تمطر معها وأيد تفسيرها بالرياح بقراءة ابن الزبير وابن عباس وأخيه الفضل وعبد الله بن يزيد وعكرمة وقتادة {بالمعصرات} بياء السببية والآلية فإنها ظاهرة في الرياح فإن بها ينزل الماء من السحاب ولهذه القراءة جعل بعضهم من في قراءة الجمهور وتفسير {المعصرات} بالرياح للتعليل وذهب غير واحد إلى أنها للتعليل ابتدائية فإن السحاب كالمبدأ الفاعل للإنزال وتعقب بأن ورود من كذلك قليل وعن أبي الحسن وابن جبير وزيد بن أسلم ومقاتل وقتادة أيضاً أنها السموات وتعقب بأن السماء لا ينزل منها الماء بالعصر فقيل في تأويله أن الماء ينزل من السماء إلى السحاب فكان السموات يعصرن أي يحملن على عصر الرياح السحاب ويمكن منه وتعقب بأنه مع بعده إنما يتم لو جاء المعصر بمعنى العاصر أي الحامل على العصر ولو قيل المراد بالمعصر الذي حان له أن يعصر كان تكلفاً على تكلف والذي في (الكشف) أن الهمزة على التأويل المذكور للتعدية فتدبر ولا تغفل {مَاء ثَجَّاجاً} أي منصباً بكثرة يقال ثج الماء إذا سال بكثرة وثجه أي أساله فثج ورد لازماً ومتعدياً واختير جعل ما في النظم الكريم من اللازم لأنه الأكثر في الاستعمال وجعله الزجاج من المتعدي كان الماء المنزل لكثرته يصب نفسه ومن المتعدي ما في قوله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الحج العج والثج» أي رفع الصوت بالتلبية وصب ماء الهدى والمراد أفضل أعمال الحج التلبية والنحر ولا يأبى الكثرة كون الماء من المعصرات وظاهره أنه بالعصر وهو لا يحصل منه إلا القليل لأن ذلك غير مسلم ولو سلم فالقلة نسبية وقرأ الأعرج {ثجاحاً} بجيم ثم حاء مهملة ومناجح الماء مصابه.
{لِّنُخْرِجَ بِهِ} أي بذلك الماء وهو على ظاهره عند السلف ومن اقتدى بهم وقالت الأشاعرة أي عنده {حبًّا وَنَبَاتاً} ما يقتان به كالحنطة والشعير ويعتلف كالحشيش والتبن وتقديم الحب مع تأخره عن النبات في الإخراج لأصالته وشرفه لأن غالبه غذاء الإنسان.
{وجنات} جمع جنة وهي كل بستان ذي شجر يستر بأشجاره الأرض من الجن وهو الستر وقال الفراء الجنة ما فيه النخيل والفردوس ما فيه الكرم وقد تسمى الأشجار الساترة جنة وعليه حمل قول زهير:
من النواضح تسقى جنة سحقاً

وهو المراد هنا وقوله تعالى: {أَلْفَافاً} أي ملتفة تداخل بعضها ببعض قيل لا واحد له كالأوزاع والأخياف للجماعات المتفرقة المختلفة واختاره الزمخشري وقال ابن قتيبة جمع لف بضم اللام جمع لفاء فهو جمع الجمع واستبعد بأنه لم يجئ في نظائره ذلك فقد جاء خضر جمع خضراء وحمر جمع حمراء ولم يجئ إخضار جمع خضر ولا أحمار جمع حمر وجمع الجمع لا ينقاس ووجود نظيره في المفردات لا يكفي كذا قيل وقال الكسائي جمع لفيف بمعنى ملفوف وفعيل يجمع على أفعال كشريف وأشراف وإنما اختلف النحاة في كونه جمعاً لفاعل وفي (الكشاف) لو قيل هو جمع ملتفة بتقدير حذف الزوائد لكان قولاً وجبها انتهى وإنما يقدر حذف الزوائد وهو الذي يسميه النحاة في مثل ذلك ترخيماً لأن قياس جمع ملتفة ملتفات لا ألفاف واعترضه في (الكشف) فقال فيه أنه لا نظير له لأن تصغير الترخيم ثابت أما جمعه فلا لكن قيل أن هذا غير مسلم فإنه وقع في كلامهم ولم يتعرضوا له لقلته والحق أنه وجه متكلف وجمهور اللغويين على أنه جمع لف بالكسر وهو صفة مشبهة بمعنى ملفوف وفعل يجمع على أفعال باطراد كجذع وأجذاع وعن صاحب الإقليد أنه قال إنشدني الحسن بن على الطوسي:
جنة لف وعيش مغدق ** وندامى كلهم بيض زهر

وجوز في (القاموس) أن يكون جمع لف بالفتح هذا وفيما ذكر من أفعاله تعالى شأنه دلالة على صحة البعث وحقيته من أوجه ثلاثة على ما قيل الأول باعتبار قدرته عز وجل فإن من قدر على إنشاء تلك الأمور البديعة من غير مثال يحتذيه ولا قانون ينتحيه كان على الإعادة أقدر وأقوى الثاني باعتبار علمه وحكمته فإن من أبدع هذه المصنوعات على نمط رائع مستتبع لغايات جليلة ومنافع جميلة عائدة إلى الخلق يستحيل حكمة أن لا يجعل لها عاقبة الثالث باعتبار نفس الفعل فإن اليقظة بعد النوم أنموذج للبعث بعد الموت يشاهده كل واحد وكذا إخراج الحب والنبات من الأرض يعاين كل حين فكأنه قيل قد فعلنا أو ألم نفعل هذه الأفعال الآفاقية الدالة بفنون الدلالات على حقية البعث الموجبة للإيمان به فما لكم تخوضون فيه إنكاراً وتسألون عنه استهزاء. اهـ.